أن تأتي متأخرًا خير من أن لا تأتي أبدًا، جملة ربّما تلخّص آراء اللّاجئين الفلسطينيّين في مخيّم برج البراجنة، حول الحملة الأخيرة الّتي شنّتها القوّة الأمنيّة المشتركة ضدّ تجّار المخدّرات.
تحرّك لطالما انتظره أهالي المخيّم، خاصّة بعد أن بدأت ظاهرة الإتجار بالمخدّرات وتعاطيها، تنتشر في أوساط شريحة كبيرة من الشباب، تحرّك كاد يفقد الأمل من تحقّقه، بعد فشل عدّة محاولات سابقة للتّعاطي مع هذا الملف، بذريعة حقن الدّماء وتجنيب المخيّم وأهله لتوتّرات أمنيّة هم بغنى عنها.
ولكن ما الذي تغيّر الآن؟
مع انتشار الحواجز على مداخل المخيّم، لضبط حركة الدّخول والخروج تماشيًا مع تدابير الوقاية من تفشّي فيروس كورونا، تكشف حجم نشاط تجّار ومروّجي ومتعاطي المخدّرات، ومعه تكشف أيضًا مدى تغلغل هؤلاء في المجتمع، واقع ساهم في تكريسه بالدّرجة الأولى؛ غياب المرجعيّة الموحّدة داخل المخيّم، التّأخّر والمماطلة في تشكيل لجنة أمنيّة موحّدة، وعرقلة بعض الجهات والأطراف لأيّ مساع حقيقيّة تهدف إلى ضبط الأوضاع “الأمنيّة” داخل المخيّم.
إزاء المستجدّات الأخيرة، تكثفت مناشدات ودعوات النّشطاء للّجان الشعبيّة والفصائل من أجل التحرّك والقيام بمسؤوليّاتهم تجاه المخيّم والتّصدّي لآفّة المخدّرات، لا سيّما أنّ عددًا منهم نجح في ضبط كميّات من الممنوعات مهرّبة من المخيّم وإليه.
آفّة المخدّرات توحّد مَن فرّقتهم السّياسة
مبادرات النّاشطين الميدانيّين إن صحّ التّعبير، في ضبط وإتلاف الممنوعات، تمّ توثيقها ونشرها في مقاطع مصوّرة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ولاقت هذه المبادرات تفاعلاً كبيرًا لدى عموم الأهالي، وسط اتّهامات للجهات المعنيّة بالتّقصير في حماية المخيّم، خصوصًا أنّ الأسماء المتورّطة معروفة، وتسرح وتمرح داخل المخيّم بلا حسيب ولا رقيب، وبغطاء حزبيّ وفصائليّ وعائليّ – كما يقول كثيرون – أمر لا شك أنّه ساهم في تشكيل ضغط شعبيّ، أحرج المعنيّين، وسرّع في اتّخاذ القرار السّياسيّ وإعطاء الضّوء الأخضر للتّحرّك.
كلّ ما سبق إذًا، شكّل شرارة لإعلان انطلاق عمليّة دهم لجميع تجّار المخدّرات في المخيّم، تنفذها القوّة الأمنيّة المشتركة، خطوة جاءت نتيجة توحّد جهود جميع الفصائل والقوى الوطنيّة والإسلاميّة واتّحاد الرّوابط والمؤسّسات الأهليّة، وبالتّنسيق مع الجهات الرسميّة اللّبنانيّة، وبالفعل أسفرت حملة الدّهم المباغتة، عن القبض على عدد من المتورّطين البارزين، وتسليمهم وكلّ المضبوطات إلى مخابرات الجيش اللّبنانيّ.
الاستقواء على صغار التجار
بعض أهالي تجّار المخدّرات رفضوا تسليم أبنائهم، وأطلقوا رشقات ناريّة، باتّجاه عدد من مقرّات الفصائل الفلسطينيّة داخل المخيّم، ما عرقل استكمال عمليّة الدّهم، أحد المسؤولين في القوّة الأمنيّة المشتركة والذي رفض الكشف عن اسمه، أبدى استغرابه من هذا الأمر، ونفى الاتّهامات الموجّهة لهم بالاستقواء على “صغار التّجّار”، فكميّات المضبوطات الّتي صوّرت ونشرت لا توحي أبدًا بأنّهم تجّار صغار، كما شدّد على أنّ العمل مستمرّ من أجل القبض على الأسماء المتبقية المتوارية عن الأنظار، رافضًا الكشف عن أيّ تفاصيل حول المرحلة الثّانية من عمليّة الدهم، فالتّكتّم والسّريّة والمباغتة سيكونون من أبرز ملامح هذه المعركة، الّتي ستشكّل ضربة جديدة قاسية وموجعة لتجّار المخدّرات والمستفيدين منهم.
المخيّم لن يكون رهينة بأيدي تجّار المخدّرات وحملة تطهيره مستمرّة
ابن المخيّم نادر راجي، المغترب في الدّنمارك، أحد الأسماء البارزة في الحراك ضدّ تجّار المخدّرات، اعتاد الأهالي على مكوثه في المخيّم لفترات طويلة من أجل تنفيذ مشاريع اجتماعيّة وإنسانيّة تصبّ في خدمتهم، يشعر اليوم بفخر من الإنجاز الّذي حقّقته القوّة الأمنيّة المشتركة، ككثيرين من أبناء المخيّم، إنجاز يجب أن يستكمل حتّى تطهير المخيّم بشكل كامل من تجّار الموت والسّموم.
“لا مجال للتّراجع، هذه هي فرصة المخيّم الأخيرة للانتصار على تجّار المخدّرات والقضاء على وجودهم”، يقول راجي، ويضيف أنّ المعركة انطلقت بإرادة وإصرار على المواجهة حتّى لو كان الثّمن الشّهادة، فالحرب مع تجّار ومروّجي المخدّرات لا تقلّ ضراوة عن الحرب مع المحتلّ، بل إنّها أشدّ فتكًا، ومن هنا جدّد دعوته للالتفاف حول اللّجنة الأمنيّة المشتركة ومؤازرتها، لكي لا يكون المخيّم رهينة بأيدي تجّار المخدّرات.
وفيما تأمل الغالبيّة بنجاح القوّة الأمنيّة المشتركة في مسعاها، يتخوّف آخرون من تلاشي حالة الوحدة الّتي تبلورت في معركة الدّفاع عن المخيّم ضد آفّة المخدّرات، ويشكّكون في استمرار حالة رفع الغطاء الحزبيّ والفصائليّ والعائليّ عن المتورّطين أصلاً، إلّا أنّ التّدابير المتّخذة على الأرض هذه المرّة، تبدو أكثر حزمًا من أيّ وقت مضى، وتبقى الأيّام المقبلة، اختبارًا حقيقيًّا لصدق النّوايا وجدّيّة الأفعال.
باختصار، يمكن القول إنَّها خطوة بالاتّجاه الصّحيح، ليس مهمًّا بمن بدأت أو من بدأها، المهم أنّها بدأت، والأهمّ، أن تستمرّ.