/
مانفيستو أخير إلى “الفنّان الشّامل”
مايو 4, 2020 6:21 م
مشاركة الصفحة
بقلم:مروان عبد العال

مانفيستو أخير إلى “الفنّان الشّامل”
عبد الرّحمن أبو القاسم

وأخيرًا، يترجّل عبد الرّحمن أبو القاسم، اللاجئ الّذي تذوّق باكرًا مرارة الغربة وضيق الحياة والشّوق لفلسطين، مقتلعًا من قريته “صفوريّة” الجليليّة إلى بنت جبيل في جنوب لبنان، ثم إلى مخيّم اليرموك قرب دمشق، وكسائر أبناء شعبه فيها، احتضنته سوريا وسوّته بأبنائها، فأعطى وأوفى وأبدع، فكان بحضور ريشة ناجي العلي وخلود أدب غسّان كنفاني؛ من المشرّد الفقير اللّاجئ المبدع، وأكثر “الفنّان الشّامل”، والمناضل الفنّان في المسرح والتلفزيون والسينما، وليصبح بالفعل من أهم رموز المونودراما في الوطن العربيّ.
هكذا يسدل السّتارة ويتلو بيانه الأخير ويغادر خشبة المسرح، بارعًا في مسرح البطل الواحد؛ ومتنقّلاً من شخصيّة إلى أخرى بفنّ وخفّة، الفنان المونودرامي والممثّل الرّاوي، والبطل الحكواتي، شخصيّات متحوّلة من مضحك ومبكٍ وهجاء سياسيّ وشعر غنائيّ وهذيان وجدل.. تنوّعت أدواته وأدواره وبطولاته وشخصيّاته من التّاريخيّة والأدبيّة والدّراميّة، بمسلسلات وأفلام خالدة، لكنّه ظلّ يعتبر مسرح المونودرامي ذات البطل الواحد، أصعب أنواع الفنون وأحبّها إلى قلبه وأرقى أشكال التّواصل مع الجمهور.
لذلك لم يخرج عن النّص، يصف نفسه بأنّه مسكون بالسّياسة حتّى النّخاع، معه كانت فلسطين تحتلّ خشبة المسرح ونبض القلب وهمس الرّوح، وتسكن الذّاكرة، كان يقول: “أنا أقاوم وأخدم القضيّة بسلاح الكلمة والفنّ”؛ وترك إرثًا عظيمًا لتحمله الأجيال. بيانٌ ثقافيّ حضاريّ، في رائعته الخالدة “بيان شخصيّ” هي حقيقة (مانفيستو) عبد الرّحمن أبو القاسم، مسرحيّة “بيان شخصيّ” هي (مانفيستو) القضيّة الفلسطينيّة في الوطن العربيّ ، قدّمها بإبداع محترف وأداء قويّ، تقمّص الدّور إلى درجة الذوبان، تركت بصمة ثقافيّة نقديّة جريئة على واقع نعيشه جميعًا؛ المسرحيّة هي زيارة يقوم بها بطل المسرحيّة إلى قبر جمال عبد النّاصر ويستقلّ سيّارة أجرة لهذا الغرض، وفي الطّريق، يتجاذب الاثنان أطراف الحديث، فيلاحظ سائقُ السيّارة أن ضيفه لا يشاطره أفكاره واهتماماته الكرويّة، في مصر عار عليك أن لا تكون أهلاويًّا أو زملكاويًّا، ويسخر من أفكاره القوميّة، ويرى أنّ الزّمن قد عفا عنها، وحينما يصل البطلُ إلى قبر عبد النّاصر ينهار باكيًا ويشكو له حال فلسطين والأمّة العربيّة.
من شيمه الجميلة الّتي تركها لنا هذا الفنّان الملتزم والصّادق والجريء والعنيد، الّذي يعتبر أنّ الممثل ليس ببغاءً، يروي بكلّ حريّة ومن دون قيد، يمثّل وهج الحقيقة، الّتي بها تأخذ الثّقافة دورها والفنّ هويّته وتنعش خشبة المسرح، قدّم نصًّا إلى وزارة الثّقافة السّوريّة، ونظرًا للوضع في سوريا في العام 2014، وقتها كان الرّدّ: (أن هذا ليس وقته الآن). ومع ذلك “الصّفوري” العنيد، ركب رأسه، وكما يبرّر تحدّيه أنّه من (برج الثّور)؛ واستمرّ بعمل بروفات يوميّة لهذا العرض، وهو يقول: لعلّ وعسى عندما يتحوّل النّصّ إلى عرض مسرحيّ يمكن أن توافق عليه الجهات المختصّة. لكنّه صار يردّدها بكبرياء وفخر: “لقد قدّمنا العرض في بيت ليس بيتًا، وفي مسرح ليس مسرحًا، إنّما هو مكتب للجبهة الشّعبيّة، وتحديدًا مكتب “جورج حبش” رحمه الله، في الطّلياني بدمشق، أعطونا المكتب الذي يبلغ طوله سبعة أمتار وعرضه خمسة أمتار، وقدّمنا عرضنا هناك بحضور وزيرة الثّقافة”.
المسرحية عنوانها “مونودراما أحبّها، أحبّها، أحبّها”، أيضًا كأنّ الوطن هو المانفيستو الأخير، فالوطن لديه كان بيانًا شخصيًّا، وعند سؤاله لماذا كرّرت كلمة أحبّها ثلاث مرات؟ قال: لكلّ حبّ قيمة وموضع ومكانة وخصوصيّة، أحبّها فلسطين، أحبّها سوريا، أحبّها الأمّة العربيّة.
يا “أبا الهيثم” يا ابن القضية والفكرة والدرب، ونحن جميعنا نودّعك ونحبّك.




تحميل...