ارتجت بيروت، ومعها ارتجت القلوب. قبل نحو عام من الآن، كانت بيروت تمضي صيفها الحارق في كل الاتجاهات.لهيب شمس عصر الرابع من آب/أغسطس الماضي، كان يمكن أن يكون مقبولاً، لولا الصوت الذي عصف بالعاصمة اللبنانية، ووصل صداه إلى قبرص على بعد مئات الكيلومترات.كان لهذا الانفجار أن يحطم آمال الملايين من لبنانيين وعرب وأجانب، أولئك الذين أحبوا لبنان. وهذا الانفجار ربما قضى على أحلام كثيرة في بلد يئن تحت وطأة أزمات سياسية واقتصادية وانعكاساتها على المجتمع.عصفُ بيروت أودى بحياة أكثر من مئتي شخص، وأدى إلى إصابة أكثر من 6500، ناهيك بتدمير العديد من الأحياء في العاصمة اللبنانية. وقد أكدت الدولة اللبنانية أن سبب التفجير تخزين كميات هائلة من مادة نيترات الأمونيوم بلا إجراءات وقائية.كان سهلاً على المنظمات الدولية والجهات الرسمية في لبنان والعالم إحصاء الخسائر وتقديرها، ومع ذلك ثمة ما لا يمكن إدراكه من هول كارثيته، وقبل كل شيء، حياة عائلات بأسرها دخلت في دائرة الفقد والوجع المزمنين.أيضاً، وعلى صعيد لبنان والعالم، فقدت المدينة شيئاً من هويتها المرتبطة بالثقافة، فقد تضرر نحو 8000 مبنى بينها “640 من الأبنية التراثية و60 من هذه الأبنية معرضة للانهيار”، بحسب منظمة “يونسكو”. وطالت الخسائر على هذا الصعيد القطاع الثقافي والمتحفي في بيروت، كالمتحف الأثري في الجامعة الأميركية في بيروت الذي تلقى وتلقت البشرية معه خسارة 74 قطعة من مجموعة “زجاجية عبر العصور” بحسب موقع الفنار للإعلام، كما متحف سُرسُق الذي تحطمت جميع نوافذه، وانهارت داخله العديد من الجدران والأسقف المصنوعة يدوياً، فضلاً عن تضرر السقف وفق مادة نُشرت في موقع الفنار بعنوان ” بيروت ما بعد الانفجار: خسائر فنية وثقافية فادحة”، إذ جاء فيها أن عشرين إلى ثلاثين لوحة تضررت بالإضافة إلى العديد من الأعمال الخزفية، علماً بأن المتحف خضع لعملية تجديد بقيمة 15 مليون دولار سنة 2015.وجاء في تقرير أعدته مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بعنوان “تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في بيروت”: “طال الانفجار صميم أحياء بيروت التاريخية، مع تركز شدة التداعيات على الموجودات التراثية ومؤسسات الصناعات الإبداعية والثقافية. فقد طال الانفجار 240 من أصل 381 من المباني والعقارات ذات أهمية دينية في المناطق التي تم تقييمها، و11 من أصل 25 أثراً وطنياً، و9 من أصل 16 مسرحاً ودار سينما، و6 من أصل 8 متاحف، و24 من أصل 25 مكتبة ودار محفوظات، و652 من أصل 755 مبنى تراثياً (عاماً وخاصاً)، فضلاً عن المساكن التاريخية.”هذه الأضرار، أدت إلى شلل شبه تام في الحياة الثقافية في لبنان بصورة عامة، وبيروت بصورة خاصة. وعلاوة على انفجار مرفأ بيروت وتداعياته، كان لكوفيد 19، وما زال، اليد الطولى في السيطرة على مجريات الحياة اليومية في معظم مدن العالم، لكن وعلى الرغم من هذا، فإن بيروت كانت تنعم ببعض النشاط الثقافي الذي من شأنه تخفيف وطأة الإغلاقات المستمرة والكلية في بعض الأحيان، بيد أن انفجار المرفأ أوقف كل شيء تقريباً، كما أنه دفع ببعض المبدعين نحو الهجرة، أو ترك البلد موقتاً ريثما يهدأ الغضب ويتعافى قليلاً من هول ما حدث.هذه المدينة تعطي ولا تأخذسيروان باران، الفنان التشكيلي العراقي الكردي الذي يحفل به موقع الدراسات الفلسطينية ضمن تبويب تركيز خاص، يحمل عنوان ” تركيز خاص منحوتة برونزية لـ سيروان باران: اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب” ذكر تجربته مع بيروت التي بدأت سنة 2007 بعد مغادرته العراق وإقامته 10 سنوات بعمان، كونه لم يكن يُسمح بدخول العراقيين إلى لبنان بحسب تعبيره. يصف سيروان زيارته الأولى لبيروت “بالسحر بالرغم أني زرت أغلب دول العالم والعالم العربي، تخيلت أنها المدينة التي سوف أستقر فيها، مجرد إحساس أولي وبعدها كان الشعور ملازماً.” عاد سيروان إلى بيروت سنة 2013 في زيارة سياحية فقط، لكنه لم يغادرها منذ ذلك الحين، يقول معبراً عن تجربته معها إنها مدينة “تعطي ولا تأخذ”.شكلت بيروت لسيروان وغيره من المبدعين العرب وطناً يمكن التمسك به، كما أن الذاكرة عن الحرية فيها تسمح بأن تغدو مدينة كبيروت ملاذاً للأحلام وللانتماء، فسيراون باران القادر أن يكون في معظم عواصم العالم يتمسك ببيروت “عندما كانت في ذروتها تمسكنا بها وعندما مرضت نتركها؟ هنا المستحيل كان، لأن بيروت هي ليست مدينه فحسب، بل هي الصحبة والأصدقاء والأمان والعمل والحنين.”سيروان باران يغلبه التفاؤل حين يتحدث عن بيروت التي كابدت ما كابدت من صعاب وآلام وجراح لم تعرفها سواها من المدن الغنية المحيطة، فالفنان المولود في بغداد، التي عانت وتعاني آلاماً وصعاباً وكوارث، يقول: “بيروت تتعافى قريباً وتعود أجمل مما كانت.. هذه المدن العظيمة بغداد وبيروت ومصر تتعرض للكوارث دائماً لكن تنهض بسهولة.”ضربة أيقظت جسداً كان يتألملحظة واحدة في العلاقة بين أي شخص وبيروت قابلة أن تتحول إلى لحظة انتماء وإحساس بالوطن، وكأن فيها ما يعني هذا الشخص، فكيف وإن كان فناناً مبدعاً صرعت الحروب بلاده كرياض نعمة العراقي الذي يتخذ من بيروت مكاناً لحياته وإبداعه، فلا تعود الصلة مع المكان صلة الزائر أو المقيم، بل صلة الجرح مع صاحبه، رياض لم يكن في لبنان ساعة الانفجار، كان في قبرص، وسمع دوي الانفجار على بعد مئات الكيلومترات “لم أفهم وقتها ما الذي حدث! لكن ثمة جرحاً بليغاً حدث في لحظة وأدركت أنه جرح عميق سوف لن يندمل بسهولة! بعدها بدقائق وصلني الخبر.. أحسست أنها ضربة أيقظت جسداً كان يتألم، ونسي ألمه بلحظة! جسداً عاش قيامة الروح ولم يعد يتألم!! حيث انتقل من مرحلة الوجع إلى مرحلة الثورة عليه.. لكنه وجع آخر في جسد هذه المدينة الحية!”. رياض فنان لا يفصل المدن الكبيرة عن سياقها التاريخي، وبيروت بالنسبة إليه يصعب أن تنفصل عن واقعها الذي مرت وتمر به، إذ يعتقد أن بيروت لا تستطيع العيش بلا آلام، بحسب تعبيره، ويضيف “أن سر حياتها الثقافية والاجتماعية يكمن في تكرار مآسيها وبأشكال متنوعة! يقال ‹أن الضربة التي لا تقتلك تجعلك أكثر قوة› عبر تاريخ هذه المدينة.. لم تهدأ هزاتها أبداً.. وهذا ثمن قوة حياتها!”بيروت ستنهض وتعود إلى نشاطها على الساحتين الثقافية والسياسية، هذا مزاجها ومجالها الحيوي، يقول رياض نعمة أن “لبيروت دوراً نشيطاً في حياتنا الثقافية والسياسية.. لهذا تكثر جروحها وكدماتها.. ونشاطها هذا يجعلها أكثر قوة”، وهنا تكمن قوة هذه المدينة، إذ على الرغم من جرحها العميق بعد انفجار 4 آب 2020، فإن هذا الانفجار، بحسب نعمة، أثر “بشكل إيجابي في نوعية العمل الفني والثقافي.. والإيجابية تكمن في آلية التعاطي لدى منتجي العمل الثقافي.. فسادت الأعمال التي تحاكي بشكل مباشر الانفجار الذي وقع.. وهذا برأيي ‹سلبي› لأن أدب الحرب لايخرج في أثناء الحرب! بل يدخل في قنوات الفهم ويخرج بشكل آخر لا يشبه الحرب! بل ربما يتحول إلى قصة حب أو أغنية هزلية.. أي عكس فكرة الحرب! فقلة من المبدعين حاكت الحدث كما هو..” تجربة رياض في محاكاة الحدث تمثلت في أعمال فيها “من القوة والحلم الذي يدعم المدينة من أجل النهوض وهنا تكمن الإيجابية! وهي الفرز النوعي للمنتج الثقافي بين المباشرة بالطرح والفهم العميق للحدث.”التفجير حرك زمن جديد دخله البلدصوت الانفجار الذي سمعه رياض نعمة من قبرص كان حياً في بيروت، كانت العدسات قبل التقاط النفس وبعده تتبع المشهد على الرغم من عدم فهمه في اللحظات الأولى، فبعض المصورين في بيروت راحوا يتتبعون الدخان لمعرفة مكان الانفجار كما حصل مع المصور الصحافي اللبناني مروان طحطح الذين يسكن في منطقة الأشرفية قرب مستشفى رزق، والذي خرج من بيته حاملاً كاميرته لالتقاط الحدث، يقول مروان: “لحظة الانفجار كنت في المنزل، أتذكر صوت التفجير والعصف القوي الذي دمر زجاج منزلي والأبنية المحيطة.. بدأت بملاحقة أثر دخان التفجير كي أعرف المكان، بعدها بخمس أو عشر دقائق أرسلت زوجتي على هاتفي رسالة أكدت لي أن التفجير في المرفأ، كنت قد أصبحت في منطقة قريبة من الحدث. لم أكن أدري بأن هذا التفجير ضخم إلى هذا الحد، كانت نصف المدينة شبه مدمرة وأشبه بساحة حرب، ذاكرتي معتادة على الأحداث الأمنية في المدينة، لكنها لم تكن مستعدة لحدث يحصل في لحظة ويدمر مساحات هائلة في بيروت.”تجربة مروان طحطح الطويلة في التصوير الصحافي، ولا سيما أثناء الأحداث الأمنية التي شهدها لبنان وشهدتها العاصمة بيروت لم تكن مشابهة لما جرى في انفجار المرفأ: “في هذا الانفجار لم أكن قادراً على تحديد البقعة الجغرافية لمدى الانفجار، الحدث هو الذي أمسكني.. كنت أتبع الدخان لأعرف المكان. لدى وصولي إلى البور، ناداني أحدهم لتصوير امرأة في سيارة فوجدتها ميتة مشوهة من هول الانفجار، فلم أصورها.” وفي مشهد آخر يقول طحطح “حين وصلت إلى جوار مؤسسة كهرباء لبنان، كان هناك شابان يعملان كعناصر أمن في إحدى المؤسسات، أحدهما ملقى على الأرض، والثاني لا يزال واقفاً.. الشاب الذي على الأرض كانت يده غير موجودة جراء الانفجار.. ناداني لأبقى إلى جانبه وأن أجد شيئاً لأضعه تحت رأسه بسبب الزجاج الكثير على الأرض، وجدت وسادة يبدو أنها طارت من أحد المنازل بسبب العصف، فنفضتها من الغبار ووضعتها تحت رأسه.. كان التفكير في كوني إنساناً قبل أن أكون مصوراً صحافياً هو الذي يقودني في هذه اللحظة، لم يكن ممكناً أن أتركه.”كان هناك العشرات، مثل هذا الشاب، رماهم الانفجار في الشوارع في انتظار وصول عناصر الصليب الأحمر أو الجيش اللبناني لنقلهم إلى المستشفيات التي توقف بعضها عن العمل بسبب تضررها جراء الانفجار، أو بسبب اكتظاظها بأعداد كبيرة من مصابي كوفيد 19.لقد مر على بيروت ما لا يعدّ من أصوات القنابل خلال الحرب الأهلية، وخلال الحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان، لكن هذا التفجير كان بمثابة المأساة والكارثة التي حلت على هذه المدينة وعلى البلد ككل، فيقول مروان: “كان ثقيلاً جداً وما زلت إلى الآن أحمل، ونحمل، تبعات مدينة شبه ميتة.. هذا التفجير كان الأعنف بالنسبة إلي. لا أعتقد أن في مقدوري نسيان صوت الانفجار. وبالتأكيد ليس في مقدوري نسيان هذا اليوم المشؤوم في 4 آب، فحتى مصوري الحرب الأهلية لم يروا مثل هذا النهار، بهذه السرعة تدمرت مساحات من بيروت.. في ثوان فقط.”يختم مروان طحطح حديثه، الذي كان فيه شيء من الشجن سمعته لدى محادثتي له هاتفياً، بالقول: “صورت بيروت في عدة ظروف من سنة 2000 لكني لم أكن أتخيل أن أراها أو أصورها بهذا الشكل. وبالتالي، بالنسبة إلي، نعم التفجير حرك زمناً جديداً دخله البلد. وهنا أتحدث عن مروان المصور الصحافي وكيف ينظر إلى المدينة الآن، وكيف يوثق يومياتها، وخصوصاً أننا نشهد انهياراً كاملاً في هذا البلد.”الأولوية للاستمرار لا للتعبيرلم تكن لغة بيروت بعيدة في يوم من الأيام عن العمق المطلوب لها، فلطالما كانت مساحة الانطلاق الثقافي والفني، ولا بد لمن يمر في شارع الحمرا أن يلتقي بأحد المبدعين الذين أثروا فيه أو أغنوا الثقافة العربية بصورة عامة، من بول شاوول إلى خالد الهبر مروراً بأحمد قعبور وغيرهم.. لكن أحداً منهم لم لم يتوقع كارثة كالتي حلت بالمدينة غداة انفجار المرفأ، فقد كان حدثاً مزلزلاً بالنسبة إلى االجميع؛ عمر ذوابة، الناشط الثقافي والمنسق السابق في دار النمر للفن والثقافة يعتبر أن “صدى ‹بيروت مدينة منكوبة› يطاردنا، لكن الانفجار بحد ذاته كان نتيجة متوقعة لسلسلة الانهيارات الممنهجة التي سبقته وحالة الغليان التي كانت في أشدها قبيل ٤ آب، فبعدما كان المشهد الثقافي البيروتي من الأكثر حيوية وتنوعاً في المنطقة العربية، إذا به يتلقى وابلاً من الصدمات بسبب الانهيار الاقتصادي وتبعاته المدمرة، ثم جاءت الجائحة العالمية وقلصت إمكاناته ونسفت المساحات التي أوجدها للقاء والنقاش، فلم يُكتب الاستمرار إلاّ لمن استطاع أن يقدم بدائل مقبولة في ظل غياب البنية التحتية التقنية التي تسمح بالتواجد الافتراضي بشكل كامل. ثم جاء انفجار المرفأ مزلزلاً البلد بأكمله ومحدثاً الدمار على جميع الأصعدة، فنال القطاع الثقافي خسائره في البشر والبنى والموارد والمعنويات ولم يتداو بعد من كل ذلك.”فمع الانهيار الكبير الحاصل في لبنان، والذي امتدت أذرعه إلى نواحي الحياة كافة ومنها الثقافية، صارت الحاجة إلى التعبير الفني والثقافي مثار تساؤل جدي كما يقول ذوابة، الذي يضيف: “كيف يُكتب لهذا القطاع الاستمرار في ظل الانهيارات المستمرة والمعنويات المدمرة والحالة الوبائية التي أطبقت على أي متنفس تبقى. صارت الأولوية للاستمرار لا للتعبير، وتضافرت جهود عدة جهات محلية وإقليمية من أجل خلق شراكات هدفت إلى التخفيف من الأضرار التي نالها الجميع في هذا الحقل، إلاّ إن مساحة التعبير انكمشت على حساب المساحة المطلوبة للنجاة. بدأت الحياة تعود ببطء شديد وثقل محسوس إلى المشهد الثقافي والفني البيروتي، لكن أوضاع البلاد حولت المساحات المخصصة للإبداع إلى هوامش، فأي مكان يحتله الفن والثقافة في بلد يئن في غرفة الإنعاش؟”آخر عاصمة عربية لديها قدرة الاستماع إلى الآخرعلاقة فلسطين ببيروت لم تتعمد بالدم فحسب، بل بتاريخ حافل من الإنجاز الثقافي والمعرفي الفلسطيني ارتبط ببيروت العاصمة التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش عبر قصائد خلدت وطنه والبلد الذي احتضن ثورة الشعب الفلسطيني على مر أعوام، فخلال هذه المرحلة تميزت التجربة الإبداعية الفلسطينية والعربية، وكان من نتاجها مركز الأبحاث الفلسطيني، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تأسست في بيروت منذ عام 1963، والتي يقول مديرها العام خالد فراج أن المؤسسة “تدين بالوفاء لبيروت” فهي لم تتوقف عن عملها، إنما وضعت على عاتقها مهمات أُخرى، وتحديداً بعد انفجار المرفأ، فهي كغيرها من المؤسسات “لملمت كادرها وموظفيها وحافظت عليهم، واستمرت في أداء رسالتها وواجبها، ولا سيما على الصعيد الثقافي والبحثي، وحافظت على كل مهماتها المعتادة .” ومعروف أن المؤسسة المتخصصة بالشأن البحثي الفلسطيني فردت مساحة واسعة في موقعها الإلكتروني لتغطية الحدث الأبرز ذلك الحين، ويضيف فراج: “قمنا بتغطية كل ما له علاقة بالمرفأ، كما أن المؤسسة أصدرت عدداً خاصاً من مجلة الدراسات الفلسطينية في أيلول/سبتمبر 2020 تحت عنوان ‹تحية إلى بيروت›، فكان هذا الحديث الأليم الذي حل ببيروت مناسبة للحفاظ على أداء رسالة المؤسسة وواجبها، ولتعزيز العمل الثقافي في آخر عاصمة عربية لديها القدرة على سماع الآخر والرأي الآخر.”دعم الفنون والثقافة في لبنان بات ثانوياًكل حدث ثقافي في بيروت كان يحظى بطابع احتفالي وباهتمام مختلف، كما كان ملتقى لشرائح متنوعة في البلد؛ تلتقي فيه مختلف اللهجات واللغات في حدث فني يخاطب الجميع بلغته الواضحة والمفهومة من قبل الجميع، لكن الأحداث السياسية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، مروراً بالانهيار الاقتصادي والإجراءات المتعلقة بكوفيد 19 وصولاً إلى انفجار المرفأ، حالت دون قيام هذه اللغة الرفيعة بأداء رسالتها مع الناس والمجتمع.. فتوقفت معظم البرامج الثقافية والمعارض على مدى عام ونصف العام تقريباً، ولعل دار النمر للفن والثقافة واحدة من المؤسسات التي كانت تضع برامج ثقافية لمعارض وعروض أفلام وغيرها، سنوية وشهرية؛ فقد ذكرت السيدة لما قبرصلي في مقال نشره موقع الدراسات الفلسطينية بعنوان المشهد الثقافي في لبنان: دعوة للتكامل من أجل الاستمرار ما يلي: “حتى الآن لم يتعاف قطاع الفنون والثقافة في لبنان من هذه السلسلة من الأحداث المؤسفة التي أثرت في المؤسسات المحلية وأنشطتها. ولا يزال الكثير من الشركات والبرامج معلقاً، بينما نعيد التفكير في هذه الأثناء في استراتيجياتنا للبقاء منفتحين ومنتجين في المشهد الثقافي.”.وعلى الرغم من أن فئات كبيرة ترى أن الاهتمام بالثقافة والفن في مثل هذه الظروف فيه شيء من الرفاهية ولا يشكل أهمية أمام حاجات الناس اليوم في لبنان أو في أي مكان في العالم، فإن حاجة البشر إلى الجمال والبحث عنه تفوقت على الصعاب المتعددة، فتضيف قبرصلي في مقالها “على الرغم من كل التحديات، فإن دار النمر شهدت عدداً كبيراً وغير متوقع من الزوار بمجرد أن أعادت المؤسسة فتح أبوابها في كانون الثاني/ يناير 2021؛ فأعيدَ تنفيذ برنامج الأفلام في ربيع 2021 على سطح المبنى، مع أخذنا بالحسبان الاحتياطات المتعلقة بجائحة كورونا، وقد حظي هذا النشاط بإقبال كبير.”هول الانفجار ظهر بالتدريجوقع الانفجار الهائل في 4 آب، كان له أن يُدخل المدينة في صمت مطبق حتى استيعاب صدمته التي عمّقت جراحاً عميقة في نفوس كل من يمت لبيروت بصلة.. مدرسة العمل للأمل للموسيقى التي تضم لبنانيين ولاجئين سوريين وفلسطينيين تفاعلت مع الحدث، وحاولت عبر أساتذتها وطلابها مع الفنان اللبناني أحمد قعبور والفنانة الفلسطينية أمل كعوش بلسمة بعض ألم المدينة وأهلها من خلال إقامة حفلة على درج مار مخايل.. أستاذة البزق في المدرسة العازفة فرح قدور قالت لموقع الدراسات الفلسطينية عن هذه الحفلة “قمنا بالتخطيط للحفلة وكانت بمناسبة الذكرى الأربعين للانفجار، بطبيعة الحال بسرعة كبيرة لكن أيضاً بصدمة تامة. أذكر أنه يوم ١٠ أيلول/سبتمبر اندلع الحريق الثاني في المرفأ وكنا في تمرين في البقاع؛ عشنا ساعات من التشتت ما بين إقامتها أو تأجيلها أو إلغائها، وأجلناها فعلًا إلى ١٢ أيلول. خلال التحضير كنا قلقين من احتمال إزعاج سكان الدرج وهم ما زالوا يلملمون زجاج بيوتهم، لذلك عملنا على أن يكون البرنامج تأبيني، لا مظاهر فرح فيه طبعاً، بل ترانيم سريانية، وفقرة أغاني وطنية من تقديم الخريجين، ووصلة مع أمل كعوش، وأُخرى مع أحمد قعبور، وكان صدى الحفل إيجابياً عند الناس، فالجميع، بمن في ذلك الفنانين، شعر بأنه أخذ نفساً بعد الحفل، وكذلك السكان ونحن أيضاً.” فرح التي تشارك في العديد من الحفلات الموسيقية في بيروت تعتبر أن الانفجار جاء في توقيت مريب، وتحديداً بعد الفشل الجزئي الذي أصاب الثورة، بحسب تعبيرها، وتضيف: “خلال انتشار فايروس كورونا الذي أثر بشكل كبير، جسدياً طبعاً، وكذلك مادياً ونفسياً، على الناس، وكان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير من جميع النواحي، كشف هول الانفجار الذي ظهر رويداً رويداً عن مشكلات ومشاعر وأسئلة وأفكار نحملها تجاه هذه المدينة.”بالنسبة إلى فرح لم تنته آثار ومفاعيل الانفجار، ولا ما فعله في المدينة ولا في نفوس أهلها وبصورة خاصة الفنانين، فتقول: “أعتقد أننا ما زلنا ضمن مرحلة الprocessing، ما زلنا نتلقى حجمه، نحاول التعامل معه ومع كل ما كشفه فينا. البعض استطاع التعبير بشكل أسرع من الآخر، والدليل على ذلك الأعمال الفنية التي ظهرت مؤخراً، والبعض فضّل الصمت واستيعاب ما جرى بهدوء. لا جواب واضح وصريح عندي على ما تركه الانفجار لدي، لكنه فعلًا أشبه بانفجار يتكرر كل يوم في داخلي.”كان الارتجاج الآخرمعد هذه المادة، لم يكن خارج سياق ما جرى ويجري لهذه المدينة، فبيروت قبل سنوات كانت فكرة جميلة ومدهشة ومحاولة للوصول إلى المعنى في هذه العاصمة التي عرفتها جيداً قبل القدوم إليها عبر أدب كثير تناولها ومحصها وعاشها بالتفاصيل.كان الانفجار هائلاً، كنت في مخيم مار الياس أقف في غرفتي أبحث عن شيء ما، شعرت بارتجاج أخلّ توازني، فجأة كان الارتجاج الآخر، وقعت، كما وقعت المدينة، فأنا ما زلت حتى اللحظة في تلك الوقعة حين أتجول في بيروت بحثاً عما كان فيها قبل عامين، عن الفرح والحزن حين التقيا في بيروت واختلطا لتتشكل حكاية عن الموسيقى في أدراج المدينة، والمسرح الذي غاب تماماً، وإن حضر هنا وهناك، حل استحضارا ًللمأساة.إن كان انفجار بيروت بداية لمرحلة جديدة في تاريخ لبنان الثقافي والفني، فإن هذه المرحلة بداية جديدة للثقافة والفن العربي، للتأثر والتأثير، للمبدعين الجدد، والوعي الجديد لإبداع ما بعد المأساة، ومحاكاتها، وثورتها.بيروت حكاية تبدأ كي لا تنتهي، والقصة مع بيروت ليست مجرد كتاب أو قصيدة أو فيلم سينمائي، ولا صحيفة تكتب بحرية. بيروت الأمان الذي تحتاجه الحياة كي تكون.