لم أسمع صوت انفجار مرفأ بيروت حقيقة، لكنه لاحقني لوقت طويل. كنت في غرفة الأخبار حين ورد النبأ. انفجار ضخم يهز العاصمة اللبنانية، بدأنا نخمّن اسم الشخصية المستهدفة. لم نكن ندرك ساعتها أن الحادث هذه المرة مختلف عمّا ألِفناه.الصور الأولى شكلت صدمة كبيرة، قلت إن المدينة ذهبت في خبر كان. كنت في تغطية الانفجار على الهواء وراء الكواليس في لندن. حاولت الاطمئنان على عائلتي، الهواتف لم تكن تعمل، أذكر أنني شتمت الإنترنت وأجهزة الإرسال والمسافات ولندن وبيروت. بعد نحو نصف ساعة، ردت والدتي أخيراً: أختك من بين المفقودين، قالت بصوت مخنوق.. إنها في مقهى أم نزيه، هل تعرفه؟طبعا أعرفه وأحفظ موقعه جيداً. تزامناً كانت الصور على الهواء من شارع الجميزة، حيث يقع المقهى. لقد تغيرت معالمه تماماً. لم أستطع تحديد الأماكن. الدمار حلّ على كل شيء. والناس في الشوارع يركضون ويبكون ويصرخون بجنون. ماذا حدث لبيروت؟كان علينا أن ننتظر ساعة أُخرى حتى نعرف أن أختي الصغيرة وعمتي نُقلتا إلى المستشفى، لكن حالتهما جيدة. نجت الصغيرة، لكن المدينة لم تنجُ. قال لي صديقي إن ليلة الانفجار أقسى من كل الحروب التي مرت على بيروت.أعادني ذلك إلى عناقيد الغضب؛ وصورة جدتي- رحمها الله- عائدة من أرضها المستهدفة في الجنوب بعد نجاتها من قصف إسرائيلي وتردد “الله أكبر عليك يا إسرائيل”، قلت لو كانت جدتي في قيد الحياة ما الذي يمكن أن تقوله؟ لم أتصور ولا حتى للحظة واحدة أن إسرائيل لا علاقة لها بما حدث، لا بد من أن الموازين قد اختلت حتى يحدث ذلك، وبأيدينا نحن!اليوم أمشي بمحاذاة بحر بيروت، لقد مر عام على الجريمة الكبرى، لكن رائحة الموت تنبعث إلى الآن من زوايا المدينة، يخيل إليّ أن الناس ما زالوا عالقين هناك في المرفأ. كل شيء في بيروت عرضة للاختفاء، المحال التي أقفلت؛ الشوارع التي تغيرت معالمها؛ رائحة الياسمين التي غلبتها رائحة أكياس القمامة؛ طوابير البنزين أمام المحطات صباحاً؛ شاب يركض من صيدلية إلى أُخرى ليبحث عن دواء مفقود؛ وأم تودع ابنها الذي ملّ ملل المدينة فقرر أن يترك البلد مثل أصدقائه.صورة أُخرى تجدها هذه الأيام في بيروت أيضاً لسائح عربي لا يهتم بسعر الدولار، ينعم ببيروت وجبال لبنان كأن شيئاً لم يكن، وكأن البلد في عهده القديم. تحلّق الأسعار عالياً في موسم السياحة، فتصبح المدينة حكراً على أصحاب العملات الأجنبية، وطبعاً لا ينسى كثيرون من السياح التقاط بعض الصور في كادر المرفأ المدمر. لقد زاروا مدينة تحترق وترقص، تحزن بعين وتضحك بأُخرى.أعود ليلاً إلى مخيمي الصغير، أجده يبكي المدينة الكبيرة. لقد اكتظ باللاجئين والنازحين أكثر وغابت عنه الكهرباء حتى زادت وحشته. لا يناله من مواسم المدينة السياحية شيء، يشاركها أتراحها ومصيرها السيئ وحبه لها فقط. مَن منا لا يحب بيروت، أذكر أنني أفرطت في حبها حتى شبهتها يوماً بجزر السعداء التي أراد سقراط أن يرحل من هذا العالم إليها. بيروت تسعدك حتى الثمالة، ثم تعصرك وترميك.