/
عندما وصلت متأخراً
أغسطس 4, 2021 6:02 م
مشاركة الصفحة
بقلم:أحمد الصباهي

كانت لحظة من اللحظات النادرة التي أتأخر فيها على دخول الاستوديو، فطوال مسيرتي الإعلامية، التي امتدت 12 عاماً، لم يتجاوز دخولي متأخراً على موعد نشرة إخبارية أو برنامج عدد أصابع اليد، لكن هذه المرة ربما كان من حسن حظي أنني دخلت متأخراً، فلربما وفرت على نفسي موقفاً محرجاً على الهواء مباشرة.
في الرابع من آب/أغسطس من العام الماضي، كنت أُعد نفسي لدخول الاستوديو، وكنت جهزت نفسي على عجل، ودخلت كما أذكر متأخراً عن البرنامج السياسي اليومي “حدث وأبعاد” خمس دقائق، فموعد البرنامج في السادسة مساء، وكان لدينا ضيفان، أحدهما من غزة عبر الأقمار الصناعية، والآخر من الضفة الغربية عبر سكايب. وكما هو معروف، لا بد من إجراء اختبار الصوت قبل الدخول في البرنامج، وما هي إلا لحظات حتى بدأنا نشعر بالأرض تهتز من تحت أقدامنا، نظرت سريعاً إلى سقف الاستوديو فوجدت “البروجيكتيرات” تهتز بقوة. تبادر إلى ذهني مباشرة أن العدو الإسرائيلي يشن حرباً على لبنان، وأن قناة “فلسطين اليوم” التي أعمل فيها قريبة من مكان الاستهداف. لحظات وسمعت المخرج يصرخ في أذني عبر السمّاعة طالباً إخلاء المبنى. هرعت إلى باب الاستوديو وكان المصور سبقني إليه. خرجنا عبر الرواق، وكانت جموع الموظفين تُخلي الأقسام صعوداً إلى خارج المبنى.
لم نكن نعلم ما الذي جرى. ومن مكان القناة التي أعمل فيها في منطقة بئر حسن في بيروت، شاهدت سحباً من الدخان الأسود تملأ السماء. بدأت التكهنات بأنه ربما تم استهداف شخصية سياسية. ذهبت في خيالي قلقاً، ففي حال صحة هذا الخبر، سيدخل لبنان في تعقيدات واضطرابات كبيرة. لقد عاصرت أحداث لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري سنة 2005، وما أدى إليه من انقسام سياسي وطائفي.
شيئاً فشيئاً بدأت الصورة تتضح، وتبين أن هناك انفجاراً كبيراً في مرفأ بيروت؛ أيضاً تبادر إلى ذهني مجدداً أن الأمر ليس بعيداً عن عمل تخريبي يقف خلفه العدو الإسرائيلي. طُلب منا العودة إلى مبنى القناة، وجاءت التوجيهات بفتح تغطية إخبارية، وبدأت المشاهد الصاعقة تتوالى من مدينة بيروت، وتحديداً المنطقة القريبة من المرفأ؛ مبانٍ مهشمة، مساجد وكنائس مهدمة، جثث وجرحى. توالت الأنباء عن ازدحام كبير في المستشفيات القريبة من مكان الحادث كالجامعة الأميركية وغيرها من المستشفيات التي كانت تعاني أصلاً جرّاء أزمة وتبعات جائحة كورونا التي أثقلت كاهلها.
طُرح سؤال كبير، ما هو سبب الانفجار؟ تواردت الأخبار العاجلة التي أفادت بانفجار شحنة من نيترات الأمونيوم كانت مخزنة في المرفأ. ولا أدّعي أن لدي خبرة بالمتفجرات ولا بـ “نيترات الأمونيوم”، لكن كان من الواضح جداً أن حجم الدمار الذي خلفه الانفجار ينبئ بشحنة شديدة الانفجار.
كان من عادتي إدخال هاتفي إلى الاستوديو، وبدأت الرسائل تصل إليّ عبر “الواتس أب” من أقربائي في خارج لبنان للاطمئنان عليّ. لم أستطع الإجابة، إذ كنت بدأت بالتغطية الإخبارية في الاستوديو، وكان من الصعوبة في حالات كهذه التواصل مع مسؤولي الصليب الأحمر أو هيئات أمنية أو حكومية، فكان لا بد من التعليق الإعلامي على المشاهد ريثما يتم تأمين اتصال بأحد المسؤولين، والاعتماد على الأخبار العاجلة التي ترِد من الوكالات ووسائل الإعلام اللبنانية. المشاهد التي عرضناها مثّلت دماراً كبيراً ذكّرني بالحروب التي مرت على قطاع غزة. وكنت قد تابعت عن قرب حروب 2008 و2012 و2014، ومؤخراً معركة سيف القدس، وعاينت سقوط الضحايا وارتقاء الشهداء؛ قصص يندى لها الجبين من الممارسات الإجرامية لجيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. لكن يبدو أن المصيبة تجمع، إذ لبّى الدفاع المدني الفلسطيني في مخيمات اللجوء نداء الإنسانية بجهوده المتواضعة، وسارع إلى النزول إلى منطقة المرفأ للمساعدة في إسعاف الجرحى ونقلهم إلى المستشفيات، ونقلت وسائل الإعلام اللبنانية جهوده، كذلك قامت مبادرات شبابية فلسطينية من المخيمات بتنظيف الشوارع وتوزيع مساعدات إنسانية بما توفر للعائلات المنكوبة التي هُجّرت من بيوتها المدمرة .
انجلى غبار الانفجار، وصدرت مواقف عن كبار المسؤولين بشأن إجراء تحقيق في المرفأ والوصول إلى نتيجة خلال خمسة أيام، وها أنا ذا أسجل تجربتي في انفجار مرفأ بيروت، وقد مر عام ولم تنجلِ الحقيقة بعد. منذ أعوام طويلة يعاني لبنان جرّاء فساد وإهمال في الإدارات الحكومية، لكن لم يكن ليخطر في بال أحد أن يصل مستوى الاستهتار بأرواح الناس إلى حد إهمال شحنة من مادة “الأمونيوم” في قلب العاصمة بيروت لأعوام طويلة، دارت حولها لاحقاً تساؤلات عن الجهة التي استقدمتها والمستفيدة منها، ومَن المسؤول عن إتلافها والتخلص منها لخطورتها. وبالخلاصة ما تم تداوله في وسائل الإعلام هو تراشق بين المسؤولين وتحميل المسؤولية لبعضهم البعض.




تحميل...