/
ليلة الصدمة
أغسطس 4, 2021 5:50 م
مشاركة الصفحة
بقلم:رويدا الصفدي

بينما كنت في منزلي جنوبي مدينة بيروت، والذي يبعد عن وسط العاصمة نحو ربع ساعة في السيارة، رنّ هاتفي، وإذ بصديقتي رنا تحدثني من منزلها الكائن في منطقة ڤردان في بيروت. لقد دخلت للتو قادمة من عملها سالكة الطريق البحري، مروراً بمحيط مرفأ بيروت. إنها الساعة السادسة إلّا ربعاً بتوقيت لبنان، دخلت رنا إلى منزلها منذ عشر دقائق بالتمام، اتصلت بي لتطمئن ما إذا كنت قبلت عرض العمل الذي تلقيته عبر اتصال وردني في تمام الساعة الرابعة عصراً من هذا النهار. نهار الرابع من آب/أغسطس ٢٠٢٠. فاجأتها! حين قلت لها: لا. فبدأت تنصحني كي أعاود التفكير وأقبل لأن البلد يمرّ بأزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه الحديث، وعليه فربما سيصعب عليّ إيجاد فرصة أُخرى مناسبة… فهذا هو الوقت الخاطئ للمخاطرة.أجبتها بأنني لا أخاطر، لكنني أريد أن أستريح قليلاً من العمل، وربما أريد أن أغيّر مهنة الإعلام لأنني تعبت من سماع القصص الاجتماعية والمأساوية، لكن لا أعرف بعد ماذا سأختار حالياً، فالأنسب لي هو الجلوس مع نفسي لأقرر بهدوء.لا أدري إذا سمعت رنا جملتي الأخيرة… فلم أرمش عينيّ بعد وإذ بها تصرخ بصوت عالٍ “بسم الله، بسم الله، شو هيدا الصوت، شو بدي أعمل، وين روح، شو بدي أعمل.”لم أفهم ماذا حدث؟ رنا شو في شو صار؟ هي: “ما بعرف يمكن انفجار…ما بعرف وين؟”بعد أقل من أعشار من الثانية، اهتز منزلي… فخرجت بسرعة البرق، رجّحت أنها هزة أرضية، فطلبت من رنا ألا تخاف وتخرج من المبنى. لا زلت في أعشار الثانية، وأمامي مجموعة من أولاد الحي يلعبون في مدخل المبنى الذي أقطنه. سألتهم هل شعرتم بالهزة الأرضية… ولم أكمل سؤالي، وإذ بي أصرخ كصرخة رنا، لكن هذه المرة كان الصوت أقرب أسرع وأقوى ويبدو أنه في محيط منزلي… صوت الانفجار وصل وبقوة كبيرة.لا زالت رنا على الهاتف… أقول لها إنها ليست هزة… “إسرائيل، انتبهي إسرائيل عم تضرب، رح سكر الخط، بدي شوف إخواتي وين، يمكن كمان قصفوا حد شغلن.”ما ذاك الصوت؟ بمن اتصل أولاً، بأخي، بأختي، بأبي؟ أين هم؟ الساعة السادسة وعشر دقائق! علامات الخوف بارزة، وقلبي يخفق بسرعة. إسرائيل تقصف… داخلي يجزم بأنها هي، ذاك الصوت ليس غريباً عني، أعرفه جيداً، بل أتذكره وبتفاصيله من ليالي حرب تموز/يوليو ٢٠٠٦، أتذكر حين خرجنا في منتصف إحدى تلك الليالي هاربين من قصف إسرائيلي طاول المبنى المقابل لمنزلنا، تأتي هذه الصورة إلى ذهني فأركض كالضائعة بين غرف المنزل. أتوجه نحو غرفة النوم ثم افتح الخزانة، حيث أضع حقيبة الأوراق الثبوتية بما فيها من صور تحمل ذكرياتنا الجميلة. هكذا هي الحال، علينا دائماً أن نكون في جهوزية تامة، فقد يُهدَم المنزل، وقد نخسر المأوى، وطبعاً سنخسر أقارب وأصدقاء، لكن لا بدّ من أن نتمسك بتلك الحقيبة، نموت معها، أو ربما نأخذ ما فيها من صور لأحبة لنا قد نعلّق صورهم على الجدران، للأسف هكذا تكون لعبة الموت في أوطاننا.وهكذا تبدّل حال بيروت التي نحب، جرح مفتوح ومرارة غضب، خسائر بشرية ومادية، خسارة مدينة، بل خسارة وطن بأكمله، انفجار هائل هز مرفأ بيروت وسقطت معه الآمال والأحلام، لا نعرف مَن فعل ذلك ولماذا؟ جلّ ما عرفناه أنه ثالث أكبر انفجار في العالم، عرفت ذلك حين دفعتني حشريتي إلى التوجه في اليوم التالي إلى مكان الانفجار، اعتقدت أن ما شاهدته من صور نُشرت على التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي مبالَغ فيها، وللأمانة ورد إلى خاطري أن تكون تلك الفيديوهات قديمة، أو ربما مأخوذة من حروب أُخرى حدثت في دول مجاورة. عقلي لم يستوعب أن كل هذا الدمار حدث في أعشار الثانية، بقيت في حيرتي حتى شاهدت نكبة بيروت، وبعد الصدمة طرحت على نفسي الأسئلة الخمسة ماذا، كيف، لماذا، متى، من؟؟ وعدت في هذا اليوم إلى الميدان، عدت صحافية أتنقل بين منازل أهل الضحايا والمفقودين، أسمع قصصهم وأعيش معهم الصدمة، والأمل، والخيبة؛ فكيف أنسى قصة سهام الجريحة، وقصة الشهيد أمين الزاهد، وعائلة محمد طليس التي عثرت على شبيه له بين الشهداء، قبل أن يُظهر فحص الـ DNA أنه ليس هو، الأمر الذي دعاهم إلى معاودة البحث في كل المستشفيات. وحينها لامست أمل والدته بأن تجده حياً بعد أسبوع من الانفجار، ليتبدد الأمل إلى حزن حين وصل خبر استشهاده. وهناك الكثير من القصص والمشاهد التي بقيت في الذاكرة علّها لا تُعاد، ولعلّ الأمل الأخير لبيروت يعود.




تحميل...