/
أنسنة التطبيع!
أغسطس 4, 2021 5:47 م
مشاركة الصفحة
بقلم:سامر العريفة

ربما لم يحلم حتى عتاة الصهاينة الذين نظّروا لـ”إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات بما وصلوا إليه اليوم، فمسار الانحدار العربي المتسارع أسقط ما تبقى من أقنعة، ولربما تجاوز العرب مرحلة “التطبيع” وتثبيت ما ادعوا بأنه “إرساء علاقات طبيعية مع إسرائيل” “الجارة والحليفة”! للأنظمة العربية الرسمية الرجعية والمتخاذلة.”إسرائيل وُجدت لتبقى، ولها الحق في أن تعيش داخل حدود آمنة”!، قالها وزير خارجية البحرين خالد بن أحمد آل خليفة، قبل عامين، في حوار أجرته معه صحيفة “تايم أوف إسرائيل” على هامش انعقاد ما تسمى “ورشة البحرين للسلام من أجل الازدهار” والتي نظمت برعاية الإدارة الأمريكية في حينها. وأردف آل خليفة قائلاً: إن بلاده ودولاً عربية أخرى “تريد التطبيع وإرساء علاقات أفضل مع إسرائيل” التي اعتبرها “جزءًا من المنطقة”!، بمعنى أنها ليست جزءًا دخيلاً على المحيط الذي تعيش فيه أو بالأحرى تحتله، بل هي “جزء أصيل منه”.وتسارعت اتصالات البحرين مع كيان الاحتلال، التي يُعتقد أنها بدأت بشكل سري في التسعينيات من القرن الماضي، في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى اتفاق التطبيع الذي أعلنت عنه الإدارة الأمريكية في 11 سبتمبر/ أيلول 2020 والتوجه لإقامة “علاقات دبلوماسية”! كاملة بين المنامة و”تل أبيب”.ولم تكن البحرين، التي أقدمت على هذه الخطوة بتشجيع ورعاية سعودية، معزولة عن المحيط العربي المتخاذل، لتكرّ بعدها سبحة التآمر العربي الرسمي، بإعلان بدء تطبيع العلاقات مع السودان والمغرب وسلطنة عمان ودول أخرى، بل وحتى السعودية التي كانت أكثر تحفظاً ـ في العلن ـ بالكشف عن الاتصالات السرية التي كانت قائمة مع دولة الاحتلال، والتي كشفت عنها الأخيرة قبل أكثر من عام، ووصولاً إلى تطبيع كامل للعلاقات بين الإمارات والكيان، بتبادل السفراء، توجتها الإمارات بافتتاح “سفارة إسرائيل”! في إمارة أبوظبي، وبحضور وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، ووزيرة الثقافة والشباب الإماراتية، نورا الكعبي.ودون أن نخوض في جدل “التطبيع” اصطلاحاً ولغة وبأن الكلمة في معناها الحقيقي لا تخالف الفطرة الطبيعية للإنسان، ولكن الإسقاط الذي تم عليها بالمفهوم السياسي لدى المطبعين يحمل بين ثناياه نقيضاً للمعنى الحقيقي ولهذه الفطرة التي جبلت عليها النفس البشرية، ولكن ما يهمنا هنا هو الخوض في هذا الإسقاط المخالف والنقيض للأصل، والذي يحمل في طياته خيانة للموروث الوطني والديني والتاريخي للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية بل والأمة العربية. فإذا كان يراد بالتطبيع إعادة الأمور إلى طبيعتها، فهل يعني ذلك بأن تصبح “إسرائيل” ذلك الكيان الغاصب والمحتل “جزءًا أصيلاً” وليس دخيلاً على المنطقة؟!إن “التطبيع” العربي بل التخاذل والتآمر العربي مع كيان الاحتلال مرّ بعدة مراحل، يمكن تقسيمها بحسب رأينا المتواضع إلى أربع مراحل:ـ مرحلة السرية.ـ مرحلة التردد.ـ مرحلة القبول.ـ مرحلة العلنية.وإنه ليمكننا القول بأن “التطبيع العربي الإسرائيلي” بدأ حتى قبل “كامب ديفيد” بسنوات عديدة، فالتعاون الاستخباراتي والأمني السري بين العرب و”إسرائيل” كان موجوداً حتى منذ العام 1948 أي منذ نكبة فلسطين!.وبعد “كامب ديفيد” تم الانتقال من “مرحلة السرية” إلى “مرحلة التردد” أي بمعنى محاولة كي الوعي العربي للمواطن العربي بأن يحصل الشيء ويتم نفيه، وعلى سبيل المثال وقبل أعوام كانت هنالك زيارة لرجل الاستخبارات السعودي أنور عشقي إلى “تل أبيب” والقدس والولايات المتحدة، والتي رفضت السعودية الخوض فيها، وهي مسألة بالتأكيد سبقها قرار سياسي سعودي بالدرجة الأولى وخليجي وعربي بالدرجة الثانية، وتندرج ضمن اتفاق للانتقال من “مرحلة السرية” إلى “مرحلة التردد” ومحاولة العبث بالموروث الثقافي العربي والإسلامي والفلسطيني.أما العبارة الشهيرة لأنور عشقي حينها والتي قال فيها: إن “إسرائيل عدو مظنون وإيران عدو مضمون”، فهي تندرج في سياق اللغة التي كان يراد منها تهيئة الأرضية، كما هو حال الجيوش الالكترونية والقنوات العربية والصحف والمجلات وغيرها، لخلق واقع جديد بأن تصبح “إسرائيل” ذلك الكيان الغاصب والمحتل “جزءًا أصيلاً” من المنطقة كما يظن المطبعون أو الواهمون، فيما أن العدو الحقيقي للأمة العربية والإسلامية هي إيران وربما سوريا أو غيرها من الدول التي لا تدور في فلك المطبعين ولا تزال تتمسك بالهوية الحقيقية والموروث الحقيقي للأمة جمعاء.وبالتالي فإن تهيئة هذه الأرضية كان يقصد بها الانتقال من “مرحلة التردد” إلى “مرحلة القبول” قبل الوصول إلى ما وصلنا إليه الآن أي “مرحلة العلنية”.لقد مرّ قطار التطبيع بالعديد من المحطات، لكن ومنذ بداية العام 2004 بدأ التطبيع يأخذ شكلاً أكثر تبلوراً ووضوحاً بين بعض الأنظمة العربية الرسمية وكيان الاحتلال، وبلغ حجم التبادل التجاري أو الاقتصادي بين بعض تلك الدول و”إسرائيل” 200 مليون دولار سنوياً، وتطور في العام 2006 ليتجاوز الـ600 مليون دولار سنوياً، وصولاً إلى 6 مليار دولار في العام 2014، فهذه النخب المطبعة أصبح لها مصلحة في بقاء “إسرائيل” في ظل وجود مصالح مشتركة وما يدعونه بأنه عدو مشترك، إضافة إلى سعي بعض الدول الخليجية للعب دور ما تحافظ من خلاله على بقائها ووجود أنظمتها وعروشها، وهذا ما يعرفونه هم ولاسيما كيان الاحتلال بـ”التطبيع الذكي والمتدرج”.لقد وصل الفجور العربي إلى محاولة تأصيل الغريب وتغريب الأصيل، فتلك الأنظمة العربية التي قادت قطار التطبيع تم إيهامها بأن الحل السحري لكل مشاكلها هو عند كيان الاحتلال، وأن الغرب سيرضى عنهم إذا ما أقاموا “علاقات طبيعية” مع الاحتلال، وأن “إسرائيل” ليست عدواً للأمتين العربية والإسلامية، ولقد تماهى الخليج مع الإيعاز الأمريكي بأنه ولمواجهة خطر إيران العدوة لهم، فهم بحاجة إلى “إسرائيل” الحليفة بكل أجهزة استخباراتها وتقنياتها التكنولوجية والعسكرية، وهذا شكل من أشكال التضليل والتزييف السياسي والفكري والثقافي.وفي أيامنا هذه التي تشهد فيها القضية الفلسطينية أدق وأصعب مراحلها في ظل التآمر العربي ولاسيما الخليجي، تمكنت “إسرائيل” المأزومة داخلياً في فلسطين وأمام صمود الشعب الفلسطيني، من أن تفك شيئاً من عزلتها وأن تفرض وجودها في القرن العربي بل والأفريقي، بعدما شرّعت لها الأبواب وأصبح حضور “إسرائيل” في المحافل العربية كما الدولية أمراً اعتيادياً وليس غريباً على وعي وثقافة وحضارة هذه الأمة، وراح قادة كيان الاحتلال وفرقه الأمنية والاستخباراتية والعسكرية يتنقلون بين عواصم خليجية عدة؛ وصولاً إلى “مؤتمر التطبيع في وارسو”، فالتصريحات الأميركية والإسرائيلية العالية النبرة في حينها ضد إيران، والحديث عن ضرورة مواجهتها، ومطالبة الأوروبيين بالانسحاب من الاتفاق النووي، خلال ما أطلق عليه مؤتمر “السلام والأمن في الشرق الأوسط” في العاصمة البولندية وارسو، والذي عقد بهدف معلن هو “مواجهة النفوذ الإيراني”، لم تحجب حقيقة أن هذا الهدف احتل المرتبة الثانية، بعدما تبين أن التطبيع مع “إسرائيل” كان الهدف الأول للمؤتمر.ولابد لنا أن نكون موضوعيين إذ نؤكد بأن مقاومة التطبيع وأدواته هي جزء من مواجهته، ولكنها أمام حجم هذا الاجتياح الضخم الحاصل سيكون تأثيرها محدوداً، لكن وفي الوقت نفسه هناك فرق بين مراكمة الهزيمة لإيصال الشعوب نحو منطق الاستسلام، وبين مراكمة القوة وتحقيق الإنجازات من أجل تصعيد المواجهة والانتصار في “معركة التطبيع” بحصار المطبعين وفضحهم وتعريتهم بل ونبذهم وجعلهم كما المحتل الغاصب لفلسطين وبعض الأراضي العربية؛ جزءًا دخيلاً وليس أصيلاً على وعي ومفهوم الحضارة العربية والإسلامية وموروثها الثقافي والعقائدي والأخلاقي، وهنا تبرز الحاجة إلى دعم المقاومة بكافة أشكالها وأساليبها وتعزيز وتأصيل حضور قوى أو محور الممانعة، فهم الذين يمتلكون منطق مراكمة القوة، أما معسكر ما أطلق عليه “الاعتدال العربي” صنيع أميركا والغرب وحليف “إسرائيل” فهو يمتلك منطق مراكمة الهزيمة، فهذه الأنظمة كانت تابعة قديماً واليوم أصبحت عميلة للمحتل وأمريكا.إن أخطر ما يواجه المقاومة اليوم، وإذا جاز لنا حتى أن نقول محور المقاومة ككل، هو محاولة شيطنة هذا الخيار ومحاصرة أصحابه وتصنيف أقطابه ضمن لوائح ما يسمى “الإرهاب” و”القوائم السوداء”، وإطباق الحصار الاقتصادي وتشديده على دول ذلك المحور، بل حتى العمل بشكل حثيث على “تأصيل قاعدة شعبية” موهومة ومزعومة ـ يتصدرها بعض العملاء والمتآمرين ـ ترفض ذلك الخيار وأصحابه، وذلك بمحاولة نقل الجمهور الحاضن “من عقيدة الإجماع إلى جدلية الإقناع”!!، وبالتالي إيجاد نقمة على جميع أقطاب محور المقاومة، والعمل على تحميلهم مسؤولية ما تمرّ به الحالة الفلسطينية، أو حال تلك البلاد حاضنة المقاومة بكافة أشكالها، حتى وصولاً إلى تحميلهم مسؤولية التراجع أو الانهيار الاقتصادي والمالي والسياسي في تلك المناطق أو البلدان، والذي كان سببه أصلاً ذلك الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة ومن يتآمر معها، مما يضع أصحاب خيار المقاومة ومحور المقاومة ضمن خانة “المدان” الذي يحاول أن يدرأ الاتهام عن نفسه! كما هم يتوهمون.إن التطبيع ليس منعزلاً عن الصراع القائم في المنطقة بل هو انعكاس طبيعي للصورة المتوقعة في المستقبل القريب بعدما تم إيجاد جذور عميقة له في الأرض، وبات الاحتلال يتباهى بذلك، وتصريحات الإدارة الأمريكية وعلى لسان الرئيس الأسبق دونالد ترامب التي قال فيها إنه لولا السعودية لم تكن “إسرائيل”، تدلل على مدى عمق جذور التطبيع لدى تلك الأنظمة العربية الرسمية، من هنا نقول لقد آن الأوان لإزالة الأقنعة لنرى الوجه الحقيقي لما يحصل في عالمنا العربي، وعلينا رغم كل ما يحصل التأكيد بأن الاحتلال وأعوانه من المطبعين العرب لن يتمكنوا يوماً من الأيام من تزييف وقلب الحقائق التاريخية أو كي الوعي العربي الجمعي وستبقى “إسرائيل” هي العدو الأوحد والأول والأخير للموروث العربي الشعبي الأصيل، وستبقى فلسطين هي القضية الأولى لدى الشعوب العربية شاء من شاء وأبى من أبى، وأختم بقول للمؤرخ اليهودي شلومو ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” حيث يقول: “اليهودي ينام في إسرائيل وخنجر موته في بطنه”؛ أي أنه يستفيق كل يوم مذعوراً وهو يتوقع بأن يأتي صاحب البيت أو الأرض ليسترد حقه، هذا الشعور عند المستوطنين المحتلين لأنهم يدركون جيداً بأنهم غرباء محتلون لا حق لهم في فلسطين، وأن شعبها حتماً سيعود.




تحميل...