الغربة سهلة على صغار السن، يكبرون ويؤسسون حياة وأصدقاء بالتدريج، فذاكرتهم ليست محمّلة بأعباء وذكريات الماضي بحلوها ومرّها، لكنها تزداد صعوبة كلما هاجر الإنسان أكبر وأكبر، لن أتحدث عن صعوبات الاندماج في مجتمع جديد، ولا تحدي لغات البلد الثلاثة الجديدة، أو حتى صعوبة إيجاد عمل مناسب على الأقل، قطعتي هذه أخصها لأعيادنا في المهجر.للأمانة قبل العيد بيومين عرفت أن عيد الأضحى يوم الثلاثاء، كنت أظنه الأربعاء، ليس إهمالاً، وإنما لأن كثيراً من المنبهات للعيد لم تعد موجودة هنا، لا أمي ولا أبي اللذين يذكّرانا بزيارة ضريح أخي الشهيد صبيحة العيد، ولا حتى التكبيرات التي يصدح بها المخيم ومساجده… حتى بسطات الحلوى العشوائية التي تنتشر في شوارع المخيم، وبالمناسبة كان لنا واحدة نتشاركها أنا وأخوتي عندما كنت طالباً نعمل بها لأيام علّنا نؤمّن مصروف العيد. صورة مزارع الخراف المتنقلة على أبواب الملاحم “المجازر” لا نراها هنا، حتى أن الأضحية على الشريعة الإسلامية في غربتي تهمة يحاسب عليها قانون أقرته الحكومة البلجيكية عام ٢٠١٨، ودخل حيز التنفيذ بداية العام ٢٠١٩، عارضه المسلمون لكنهم في النهاية ملزمون باحترام قوانين البلاد، فيفضّل الكثير إحياء هذه الشعيرة بشراء ذبيحة جاهزة وتقسيمها وتوزيعها، وذهب آخرون وأرسلوا ثمن أضحيتهم لأهلهم في بلادهم، رغم ذلك هناك قلة تحدوا هذا القانون وراحوا يذبحون بعيداً عن أعين الدولة، وهذا ليس استثناء في بلجيكا.أعياد المسلمين غير معترف بها في هذا البلد، لذلك تسير الحياة بشكل طبيعي في البلاد في أيام أعياد المسلمين، ورغم أن توقيت عيد الأضحى جاء صدفة في العطلة الصيفية للمدارس – عيد الفطر جاء في أيار في خضم العام الدراسي – إلا أن الحياة تسير بشكل طبيعي، وكل أرباب الأسر ملتزمة بأعمالها، فالعيد يأتي في ثاني أيام الأسبوع وينتهي الجمعة أي في أسبوع عمل عادي.صبيحة العيد نفتقد زيارة الأهل وصلة رحمنا، ومشاهدة أجواء العيد وفرحة الأطفال في الشوارع والأزقة.. صلاة العيد في مسجد حينا ومعايدة أهله، الاصطفاف أمام أبواب المطاعم صباحاً لشراء الفطور.. أجواء أصبحت الآن من الذكريات التي تدق جدران مخيلتي في كل عيد.رغم كل هذا، نحاول جاهدين فعل شيء خاص نُدخل به الفرحة على قلوب أبنائنا، نلبس ثياب العيد ونهديهم العيديات، ونزور الأهل والأقرباء عبر تطبيق واتس أب، ونذهب للاحتفال في متنزّه عام أو مدينة ألعاب، لحسن حظنا أُعيد افتتاحها هذا الصيف، فالعيد عيدنا، وينبغي أن نحيي شعيرة الله، لا أن تذوب في شوارع الغربة.