يرفض الحديث عن تجربته. وبعد أخذ ورد يوافق شرط ألا يُذكر أسمه، فما قام به يجب نسيانه حسب قوله. يشير محمد (اسم مستعار) إلى أنه دخل في نوبات اكتئاب قبل إتخاذه قرار السفر بطريقة غير شرعية. فالوضع المعيشي اشتد سوءاً، “ولم يعد بمقدوري تأمين الحليب لأطفالي، ولا أملك أي مدخول بعدما كنت أعمل في مصنع اخشاب، واستغنى رب العمل عن خدمات غالبية العمال. انتظرت أكثر من ثلاثة شهور لتنفرج الأحوال، لكن أزمة فيروس “كورونا” استمرت، ولم يعد المصنع بحاجة لنا لأن العمل شبه متوقف”.عرف محمد من أقارب له، أن سمساراً أسمه أبو احمد، يؤمن هجرة من يريد مقابل ألفي دولار أميركي. ويروي: “اضطررت إلى بيع كل ما تملكه زوجتي من ذهب وكان ثمنه خمسمائة دولار تقريباً، واستدنت الباقي من أصدقاء واقرباء، وطلبت من أخي المقيم في أستراليا أن يحول لي ألف دولار. وبالفعل أرسل أخي المطلوب مع أحد الواصلين الى بيروت من سيدني”. دفع محمد جزءاً من المبلغ للسمسار وسجل أسمه، وبعد أيام ركب قارباً مطاطياً أسود، وقبل انطلاقته دفع المبلغ المتبقي. يقول: “المركب لا يتسع سوى لعشرة أشخاص، والركاب وصل عددهم إلى 35 شخصاً من ضمنهم نساء وأطفال من جنسيات مختلفة، وكان هناك ثلاثة قوارب ستنطلق في الوقت نفسه”. لم يقدم أحد لهم أي نصائح سوى اعطائهم سترات برتقالية نُفخت بهواء قليل. ويشرح: “القبطان رفض حمل أي حقائب أو طعام في المركب. والجميع وافق على أمل الوصول بأسرع وقت ممكن إلى شواطئ قبرص اليونانية”. كانت الأجواء صافية، وهذا شجع القوارب الثلاثة على زيادة سرعتها. ويقول محمد: “فجأة، سمعنا أصوات استغاثة من القارب الأمامي. ولم نستطع فعل شيء. القارب غرق ولا نعرف الأسباب، وخفنا أن يصيبنا الأمر نفسه. حاولنا مساعدتهم، لا سيما وأن بعض الغارقين لا يجيد السباحة. كان المشهد مروعاً، وكلما تذكرته دمعت عيناي خصوصاً على مصير الأطفال”.يروي محمد، أنه “بعد ساعات من مكوثهم ساعات طويلة في البحر، أتت قوارب لخفر السواحل القبرصية، وحاولت إنقاذنا والبحث عن ناجين. فقد الجميع الأمل، وأخذتنا الشرطة إلى سفينة كبيرة، وقدمت لنا اسعافات أولية وبعض الطعام وأعادونا الى لبنان. وعند وصولنا عرفنا أنهم وجدوا جثثاً في الصرفند وخلدة. كانت رحلة رعب حقيقية. يمكن أن اكررها لكن في الجو أو البر وليس في البحر”.يحمِّل محمد، المسؤولية للدولة اللبنانية التي برأيه لا تهتم للمواطن، وتكتفي بقتل أحلام الشباب من دون أي فرصة عمل أو ضمان صحي واجتماعي. ويرى أن “الشعب كله سيهاجر أكان ذلك بشكل شرعي أو غير شرعي إذا استطاع، فهذا البلد لم يعد يشعر بالفقير، لقد رأيت الموت في البحر، لكنه أهون من أن اعيشه كل يوم في بلدي”.