مما لا شك فيه أن الحركة الصهيونية استغلت اختلال موازين القوى العالمية لتحقيق أهدافها، ولعب اللوبي اليهودي في الدول الاستعمارية، لا سيما المشاركة في الحربين العالميتين، دورًا مهمًّا بذلك. ويختلف الباحثون والمؤرخون حول نقطة الارتكاز لبداية مشروع احتلال فلسطين، لأن الروايات الإسرائيلية المترجمة عن مراجع غربية، أو القصص والأخبار المدسوسة لتصوير الصهيوني أنه صاحب نفوذ قوي ويخطط بشكل رهيب مقابل العربي الضعيف المستكين، إضافة لجعل طرق البحث المنهجية حول الحقيقية صعبًا. ولكم درسنا وسمعنا بمؤتمر لندن (1905 -1907) أو بوثيقة كامبل بنرمان. وتقول الحكاية: إن مجموعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد، اجتمعوا في المؤتمر ورفعوا توصيات عام 1907 إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بنرمان، ينصحون بالتالي: “إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معًا بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل – في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس – قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة”.
توصيات الوثيقة نفذت عمليًّا، لكن الوثيقة لا أثر لها كما يؤكد المؤرخ أنيس صايغ والباحث محسن صالح. إذًا تنضم وثيقة كامبل إلى ما يعرف بـ”وعد نابليون 1798″ غير الموجود و”بروتوكولات حكماء صهيون” التي كشف زيفها الباحث عبد الوهاب المسيري، في كتابه “البروتوكولات واليهودية والصهيونية”.
هناك تواريخ وأحداث لا يعرف تمامًا من رمى بها بوجه أجدادنا وهي كاذبة، ومع الأسف اقتنع بها باحثون وألفوا كتبًا عنها وتُستخدم في الأدبيات العربية والإسلامية دونما أدلة قاطعة على وجودها. وكل ذلك لإثبات المؤامرة على الشعب الفلسطيني والأمة. لكن ثمة وثائق وكتابات تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان؛ فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل، برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن عام 1902، قال له هرتزل: “إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون دولة حاجزة، حيث تؤمن المصالح البريطانية. وكذلك قدم هربرت صمويل -اليهودي الصهيوني والوزير في الحكومة البريطانية التي كان يرأسها زعيم حزب الأحرار هنري أسكويث- مذكرة سرية للحكومة البريطانية في يناير/ كانون الثاني 1915، طالب فيها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان لليهود ليصبحوا أغلبية السكان، مشيرًا إلى المزايا الاستراتيجية للسيطرة على فلسطين.
وأمام المؤامرات التي يتبعها مؤامرات، يمكن وضع وعد بلفور في خانة البداية للتطبيق النظري والفعلي للمشروع الصهيوغربي لاحتلال فلسطين. لكن من صاغ هذا الوعد المثبت تاريخيًّا؟
ليو ايمري، أحد من صاغوا وعد بلفور. كان صحافيًّا وعضوًا في حزب “المحافظين” وأصبح نائبًا في مجلس العموم البريطاني، ثم وزيرًا للمستعمرات. هذا الرجل خطير جدًّا لأنه كان مُحبًّا وداعمًا لليهود ووكالتهم بعكس بلفور، المعروف عنه كرهه واشمئزازه من يهود أوروبا بسبب بُخلهم ورزالتهم حتى أنه وصفهم بـ”الأوساخ البشرية” وبعض المترجمين اعتمدوا مصطلح “النفايات البشرية”.
كتب ايمري، 67 كلمة وهي نص الرسالة الوعد إلى أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني اللورد ليونيل دي روتشيلد. غيّرت الرسالة الجغرافيا وزيّفت التاريخ وبدلت الخرائط وخلطت أوراق الوطن العربي ومحيطه. هذا الليو، كان دقيقًا جدًّا بالصياغة فكتب “National home” ولم يكتب “Home land” أي أنه استخدم الوطن القومي لشعب ما، وليس مسقط الرأس أو الموطن (الوطن في اللغة هو المكان الذي وطَّن الإنسان نفسه على المقام فيه، وعدم الرحيل منه، سواء أكان نشأ فيه، أم كان طارئًا عليه. والوطن في العُرف هو بلد العشيرة والأهل، وإن لم ينشأ الإنسان فيه، وهذان المعنيان مقصودان للناس قديمًا وحديثًا، وقد طرأ معنى سياسي ثالث، أن الوطن كل ما يشمله حكم الدولة، ويدخل تحت ولايتها، وقد دخل هذا المصطلح على المسلمين في جملة ما دخل عليهم من مصطلحات الأمم والدول الحديثة. وأما المواطن فالمراد به المنتمي إلى الوطن بمفهومه السياسي، ولذا فإن من شروط كون الإنسان مواطنًا أن يحمل ما يعرف بدفتر النفوس أو الحفيظة أو التابعية، ويعبر عنها بالجنسية، التي معناها أنه من جملة الرعية، ولذا قد ينتقل الشخص من وطن إلى بلد آخر بمنح الدولة الأخرى له جنسيتها، فيصير البلد الجديـد وطنه، وفي المقابل إذا اختلف المواطن مع الدولة سحبت منه الجنسية، وطلب منه الخروج، ولو كان البلد الذي هو فيه وطن آبائه وأجداده، ومما يحقق هذا المفهوم أن البلد لو طرأ عليها تقسيم لكان كل قسم وطنًا مستقلاً عن الآخر، ولذا من المناسب أن يسمى اليوم الوطني بيوم الدولة ليطابق الحقيقة)..
وأصر ايمري، على إضافة جملة في الرسالة: “لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”. هذه العبارة تدل على اعتراف بريطانيا بالحق الفلسطيني أصلاً لكنه كان مخططه أن يعيش اليهود والمسلمون والمسيحيون معًا على الأرض نفسها بعيدًا عن مسميات الدولة ودستورها.
خلال عشرة أعوام بعد “وعد بلفور” هاجر إلى فلسطين مئة ألف يهودي، وكانت ثورة البراق عام 1929، فخاف ايمري على مشروعه لا سيما وأن علاقة اليهود بألمانيا بدأت تتوتر، والزعيم الألماني اودلف هتلر، اتخذ قرارًا بطردهم إلى بقية الدول الأوروبية، فقررت بريطانيا تخفيف دعم اليهود وهجرتهم حتى اصطدمت بالوكالة اليهودية، فنفذت العصابات الصهيونية عملية تفجير فندق الملك داود في القدس حيث مقر قيادة القوات البريطانية. ابتزاز واضح جدًّا؛ ففكر ايمري، باعتباره وزيرًا للمستوطنات بالحل. تمخض تفكيره فأنجب خريطة تقسيمية لفلسطين وكان قرار التقسيم عام 1947. تنبأ الوزير البريطاني، أن القدس ستكون المعضلة الرئيسة إذا لم يقبل الجانبان أن تكون عاصمة موحدة للطرفين واعترف في مذكراته أن هذا المكان (فلسطين) سيبقى فيه الصراع حتى يقضي طرف على الطرف الآخر.