وصل لاجئون فلسطينيون إلى بلدة الدامور المسيحية في جبل لبنان لإطفاء الحرائق، بعضهم يطؤها لأول مرة، ومنهم وصل أباؤهم قبل أربعة عقود لتتصدر الدامور عناوين الصحف حينها، بسبب مجزرة ارتكبتها الحركة الوطنية في يناير/ كانون الثاني 1976 ضد اليمين اللبناني كردة فعل على توقيف الناس وقتلهم وفقا للهوية، وردا على مجزرة الكرنتنيا – المسلخ التي راح ضحيتها أكثر من ألف فلسطيني. سُميت حربا أهلية، لأن الأهل يقتلون بعضهم في المناطق المأهولة بالسكان، وغالبا الضحايا يكونون مدنيين.
حالياً، اختار اللاجئون الفلسطينيون إطفاء النيران الممتدة في جبال لبنان، بدل مشاهدة ذلك عبر وسائل الإعلام. وربما ردة الفعل الطبيعية هي حماية مخيماتهم إذا اقتربت النيران، والقول فيما بينهم: لماذا نساعد من يحرمنا حقوقنا الإنسانية ونذهب لمساعدته إنسانيا؟
بصراحة مطلقة، نسي الفلسطيني أحقاد التاريخ ورمى الماضي بذكراه القبيحة، ومد يده أكثر من مرة كبادرة حسن نية لبناء جسور الثقة نحو الحاضر والمستقبل. في المقابل، تفاعل جزء بسيط من الشعب اللبناني. ولاقت أحزاب لبنانية المبادرات الفلسطينية دليل ضعف، وبالتالي لماذا تعطي الضعيف حقاً يمكن نزعه منه. فمنذ “إعلان فلسطين في لبنان” عام 2008 والاعتذار الفلسطيني عن كل أذى، لم يتغير شيء سوى ازدياد حالة البؤس في المخيمات. ولأن اللبنانيين لم يعتذروا عن الأذى المقابل خلال الحرب الأهلية، بقيت العلاقة مبنية على إعطاء من دون أخذ. والأهم أن الملف الفلسطيني في لبنان يدخل في البازار الطائفي، ولا تكون النظرة للفلسطيني كإنسان لديه أحلام إنما ک”إرهابي” يعيش في جزر أمنية. فهل إطفاء الفلسطيني للحرائق في لبنان يغير الواقع أو أقله يبدل النظرة عند الفئة العنصرية؟ بفم ملآن بالثقة نقول: لا. وذلك، لأن التركيبة النفسية للشخص العنصري أو الطبقة العنصرية مركبة على أساس كره ذاك المسمى؛ فلسطيني، ولو أشعل أصابعه شمعاً لإضاءة لبنان. وهذه الطبقة ليست من طائفة معينة، إنما منتشرة على جغرافيا لبنان والعقول اللبنانية في بلاد الانتشار.
حصل في خلال حرب 2006، أن فتحت المخيمات منازلها ومدارسها للنازحين، حتى أن فرن الخبز في مخيم الرشيدية وزع الخبر خلال 33 يوما على قرى الجنوب مجاناً، وقصف الطيران الإسرائيلي الفرن لمعرفة أهميته المعنوية قبل اللوجستية. يذكر أهالي مخيم عين الحلوة، أن مذياع المسجد نادى لتأمين الطعام والشراب ومسلتزمات النوم، وخلال دقائق كان أهل المخيم كله في المراكز المخصصة للنازحين يحملون ما استطاعوا من حاجيات. وبعد انتهاء الحرب، انقطعت العلاقة مع النازحين المقدر عددهم بالآلاف، إلا من رحم ربي. منهم من حمل ذكرى جيدة عن المخيم، ومنهم نسي، وبعضهم وقف مع وزير العمل اللبناني ضد الفلسطيني في قضية إجازة العمل. وهذا طبيعي جدا، لأن الذاكرة البشرية ضعيفة جدا. من يتذكر الآن الشاب الفلسطيني صابر مراد، الذي أنقذ مدينة طرابلس من عمل إرهابي، قبل أربعة أشهر فقط. وشخصيا نسيت اسمه، وراجعت “الأستاذ غوغل” لأتذكر اسمه الكامل. وبعد أيام وأشهر وأعوام، ينسى الجميع فدائية اللاجئين ودورهم في إطفاء الحرائق.
إن ما فعله الإطفائيون والمسعفون اللاجئون، يقع في خانة الواجب الإنساني، ولم يكن للدعاية وتصوير “السيلفي”. لكن الطبقة العنصرية نفسها، استغلت هذا الواجب للتصويب على الفلسطيني، ووصفه بأوصاف غريبة. أحدهم تفاجأ كيف يملك هؤلاء دفاعا مدنيا ولديهم إطفائيات! وآخر اتهمهم أن لديهم دولة داخل الدولة! والعجب العجاب، أن أحدهم اتهم اللاجئين بإشعال الحرائق.
توقف الزمن عند هذه الفئة مع انتهاء الحرب الأهلية، والأخطر أنهم ينقلون الجينات والأفكار العنصرية إلى الأجيال الجديدة. أما الأجيال الفلسطينية يجب ألا تنزلق إلى الحقد، إنما تبقى تبادر ولو كانت العلاقة ظالمة. لأن الأمر يعتمد على التراكم لتغيير الصورة النمطية لا سيما وأن أدوات التغيير حتى الآن ضعيفة، والتاريخ كما القلوب فيها حرائق كبيرة حان وقت إطفائها.