إهتز لبنان عموماً والمخيّمات الفلسطينية خصوصاً، في الفترة الأخيرة، على وقع المشهد الفظيع الذي وثّقته كاميرا مراقبة، لإمرأة تحمل طفلها على صدرها، عندما أصابتها رصاصة في رأسها، في حيّ فرحات على أطراف مخيّم شاتيلا في بيروت، فأردتها قتيلة على الفور. لم يكن للمرأة ذنب ولا لرضيعها الذي ارتطم بالأرض في مشهد أدمى القلوب، سوى أن صودف مرورهما في لحظة نزاع بين تجّار المخدرات. وقبل هذه الحادثة بأسابيع، قُتل شخصان في مخيّم الرشيديّة (جنوب لبنان) على أيدي تجّار المخدرات أيضاً. هذان الحادثان أشعلا وسائل التواصل الإجتماعي، وانفجر الغضب تظاهرات في شوارع المخيّمات، مطالبة الفصائل بوضع حدٍّ لهذه الآفة، التي باتت تهدّد على نحو جدي، نسيج المجتمع الفلسطيني وتوازنه وأمنه.
حملت حقيبة على كتفي فيها كاميرا تصوير، وتوجّهت إلى حيّ فرحات حيث قتلت المرأة ورود كنجو. نظرات راصدة لاحقتني من شابين لحظة وضعت قدمي الغريبة في الحيّ، فيما بعض النساء والفتيان يراقبونني من نوافذ شققهم التي تفيض فقراً وبؤساً. قال لي صديقي: “إن معظمهم من أهالي تجّار المخدرات، وهم يراقبون تحركات كل من يدخل إلى المنطقة”. في الشارع، رجلان طاعنان في السنّ يلعبان طاولة الزهر. إلى جانبهما، جلس ثالث أومأ إليَّ بغمزة ليدعوني إلى أن أقترب منه، سألني: “ما هذه الحقيبة التي تحملها؟”. قلت له: “كاميرا”. همس في أذني ناصحاً: “عمّي، الأفضل أن تخفي الكاميرا وترحل. هنا، يمنع دخول الصحافة. إذا رآك أحد الشباب قد يؤذيك”. فغادرت كما أتيت.
حوار مع تاجر مخدرات في اليوم التالي، إتصلت بصديق لي من مخيّم شاتيلا. رتّب لي موعداً مع أحد التجّار الذي وافق على الحوار معي بشرطين: أن لا يكون معي أي وسيلة تصوير أو مسجّل صوت، وأن لا أشير إلى إسمه أو أنشره.
بدأ الحديث من دون أن أسأله. قال: “لا تصدّق أنني سعيد بهذا العمل، لكن لم يعد أمامي أيّ خيار”. فقلت له: “لماذا لا تعمل؟ هناك عدد كبير من الفلسطينيين في المخيّم يعملون، وكثر من العاطلين عن العمل لم يلجأوا إلى تجارة المخدرات”. قال: “دخلت إلى هذا العالم قبل أربع سنوات. كنت أعمل في شركة “إليغانس”، أوزّع منتجاتها على المحال. ذات يوم، أوقفني حاجز للأمن الداخلي واحتجز سيارة الشركة، لأني لم أكن أملك دفتر سوق عمومي. إستدعاني مدير الموارد البشريّة في الشركة، وأوقفني عن العمل طالباً مني أن أتدبّر أمري. بدأت أبحث عن عمل آخر أياماً عدة، حتى وافق أخيراً مطعم صغير في الطريق الجديدة أن أعمل لديه في خدمة التوصيل “ديليفري”، شرط أن يكون لديّ دراجة نارية. ذهبت واشتريت دراجة وسجّلتها. كلفتني نحو 1100 دولار، وهو كل ما كنت قد أدخرته من عملي السابق”. وتابع: “بعد ثلاثة أسابيع، وبينما كنت أوصل طلبيّة إلى أحد المنازل، ركنت دراجتي الناريّة أمام المبنى وصعدت إلى الطابق الرابع لأسلّم الطعام إلى الزبون. لكن حين نزلت، فوجئت بعدم وجود الدراجة. صعقت وارتبكت. أبلغت المخفر بذلك، لكن ويا للأسف لم يتمكنوا من العثور عليها. هنا أصبت باليأس، ولم أعد أدري ماذا أفعل. فشرط المطعم الأساس هو أن يكون لديّ دراجة ناريّة، لكن لم يعد لدي ما يكفي لشراء دراجة أخرى. ولكي أهرب من واقعي الصعب، عمدت إلى تدخين سجائر الحشيشة. مكثت أسابيع عدة من دون عمل. في هذه الفترة أشفق عليّ أحد التجّار، وسألني ما إذا كنت أود أن أعمل معه وأجني بعض المال. في البداية تردّدت، لكني عدت ووافقت. وشيئاً فشيئاً صرت تاجراً معروفاً، وأصبحت مطلوباً للدولة”. سألته: “هل أنت راض عن ذلك؟”.
قال: “بالطبع لا. سُمعتنا أمام الناس سيئة، وحياتنا معرّضة للخطر. يمكن أن نُقتل في أي وقت، أو يتم القبض علينا. لكن لم يعد لديّ خيار آخر. يعمل حالياً بعض الخريجين الجامعيين في تجارة المخدرات، بسبب عدم وجود أعمال يمارسونها”.
قاطعته قائلاً: “لكن هذا ليس مبرراً، لأن ضرر المخدرات كبير جداً عليكم وعلى الناس. كلّ الناس هنا يعيشون تحت وطأة الظروف المعيشيّة عينها، ولم يمت أحد من الجوع، والجميع يتدبّرون أمرهم وقوت عيالهم. ثانياً، ألا ترى أنّكم بهذه التجارة، وإن كنتم لا تقصدون ذلك، تدمّرون سمعة المخيّم ونسيجه الإجتماعي وتخدمون إسرائيل في نهاية المطاف”.
قال: “أنت تبالغ حتماً. في كل مكان هناك مصانع مخدرات، ويصدّرونها إلى كل المناطق. نحن هنا فقط نبيعها “ع الخفيف”، علماً أن معظم بضاعتنا نبيعها لأشخاص من خارج المخيّم. نحن لا نُجبر أحداً على شراء المخدرات، من يريدها سواء كنا موجودين أم لا، يستطيع الحصول عليها كأي سلعة. هل يُعقل أن نمسك الشخص الذي لا يدخن المخدرات ونجبره على تعاطيها رغماً عنه؟”.
سألته: “إذا وجدت عملاً هل تترك تجارة المخدرات؟”. رد قائلاً: “نعم، لكن شرط أن تنظّف الدولة ملفي أيضاً، ولا يلاحقوني في ما بعد”.
قلت: “هل برأيك لو توفر هذا المخرج لكل تجّار المخدرات يتركون هذه التجارة؟”. أجاب: “بصراحة لا. هناك بعض التجّار الكبار الذين يجنون مبالغ طائلة، وعدد منهم لم يعد همّهم سمعة المخيّم وفلسطين لأنهم صاروا متورطين بجرائم، وأصبحوا ضمن شبكات مخدرات كبيرة داخل المخيم وخارجه. لا أعتقد أن هؤلاء سيتركون هذا العمل، لأنهم باتوا يشكلون الخطر الأكبر علماً أن عددهم ليس كبيراً، لكنهم يسبّبون المشاكل. الحل الوحيد مع هؤلاء هو القوّة، والقيام بتسليمهم إلى الدولة. لكن ثمة مشكلة أيضاً، وهي أن بعض الأشخاص داخل الفصائل يتعاملون معهم ويؤمّنون الغطاء لهم، أما من هم مثلي فنحن نعتبر من التجّار الصغار”.
* “أخبرني كيف تسلّلت المخدرات إلى المخيّمات؟”.
– “في المخيم لا يوجد مصانع مخدرات أو مزارع حشيشة، المخيّم فقط هو للتوزيع والإستهلاك. المخدرات تأتي من خارج المخيّم، وتحديداً عبر الأحياء الشعبية الملاصقة له. لاحظ أن الأحياء التي تنتشر فيها المخدرات هي الأحياء التي تقع على أطراف المخيّم. فمنذ وقت طويل، وبسبب التداخل الجغرافي نشأت علاقات بين الأهالي هناك، وتحديداً بين الشباب. في البداية كانوا حين يلتقون، يتعاطون الحشيشة أثناء السهرات، ثم يدخلون القليل منها إلى البيوت لتعاطيها. بعدها، تطوّر الحديث عن إدخال كميّات إلى المخيّم والمتاجرة بها. لقي هذا الاقتراح ترحيباً لأنّ التجارة بهذه الأمور تؤمِّن ربحاً سريعاً، ثم تطوّر الأمر بإدخال أنواع أخرى من المخدرات، وتكوّنت شبكات باتت تتعامل مع الخارج ومع بعض المنتمين إلى الفصائل. ويا ليت بعض الصحافيين ينضمون إلينا”، ختم حديثه ممازحاً.
مع المسؤول عن أمن المخيّم لأمين سر فصائل منظمة التحرير في مخيّم شاتيلا كاظم حسن، الجهة المسؤولة عن أمن المخيم، روايته عن دخول المخدرات إلى المخيّمات الفلسطينية.
قال: “بدأت هذه المشكلة مع خروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982، حيث لم يعد هناك سلطة فعليّة للجان الشعبيّة ولا للكفاح المسلّح، ما أدى إلى حدوث فراغ كبير جعل أبواب المخيّمات مشرّعة لدخول مثل هذه السموم. ومع الوقت، أصبحت تجّارة المخدرات منظّمة تديرها بعض العصابات في الداخل والخارج، وبدأت إعتداءاتها تتزايد ولا سيما في الفترة الأخيرة. هنا، تداعت الفصائل وقررت رفع أيّ غطاء عن تجّار المخدرات والمدمنين، ومكافحة هذه الآفة بشتى الطرق. لكن المشكلة الأساسيّة كانت تكمن في عدم توافر غطاء وحماية للقوى الأمنيّة الموجودة في المخيم. ففي العام 1969 حصل إتفاق القاهرة لتنظيم العمل المسلّح في لبنان، وكانت منظمة التحرير هي المسؤولة عن أمن المخيّمات، وكانت الأمور تحت السيطرة. لكن في العام 1987 ونتيجة للتطورات السياسيّة في البلاد، ألغى الرئيس أمين الجميل إتفاق القاهرة باعتباره يمسّ سيادة لبنان، وباتت المخيّمات من مسؤولية الدولة اللبنانية”.
سألته: “لكن ما المشكلة إذا جرى القبض على مروّجي المخدرات وتمّ تسليمهم إلى الدولة؟”.
أجاب: “هناك مشكلتان: الأولى أن استخدام السلاح في أيّ عملية دهم قد يعرّض عناصر القوى الأمنيّة للملاحقة القانونيّة من الدولة اللبنانيّة، ويصبح العنصر مطلوباً وعليه مذكرة توقيف، ولا سيّما إذا حصل إطلاق نار وسقط قتلى. المشكلة الثانية، أن بعض المروّجين ومن باب النكاية، يتهمون في بعض الأحيان من سلّمهم إلى الدولة اللبنانيّة، بأنه شريك معهم في تجارة المخدرات، وهنا تصبح القضية مفتوحة، ويصبح أيّ عنصر أو مسؤول في القوة الأمنيّة معرّضاً للمثول أمام القضاء والمحاكمة. المسألة معقّدة، والحل الصحيح لها هو في إيجاد صيغة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير، من شأنها أن تراعي الخصوصيّة الفلسطينيّة في لبنان، وتفضي إلى منح القوى الأمنيّة صلاحيّات بالتدخل لمحاربة هذه الآفة، على أن تحميها من أي ملاحقة قضائيّة”.
مسؤوليّة فصائل وعائلات في لقاء مع بعض الناشطين في المخيم، توجّهت معظم أصابع الإتهام إلى بعض المسؤولين في الفصائل، بالتورط في تجارة المخدرات وتأمين الغطاء والحماية لبعض المطلوبين. كما أشاروا إلى أنّ من أهم المعوّقات التي تحول دون معالجة هذه المشكلة، هو الإحتضان العائلي للتجّار. أما الحل في نظرهم، فهو إنشاء قوّة أمنية مشتركة من كل الفصائل، ورفع الغطاء عن كل التجّار، وإعطاء مهلة أسبوعين لكل من يريد ترك هذا العمل. أما من يضبط بعد ذلك متلبّساً ببيع المخدرات، فيتم القبض عليه ويُسلّم إلى الدولة.
يجمع هؤلاء على أن المخدرات أضرّت كثيرا ببعض المخيّمات وتحديداً شاتيلا وبرج البراجنة والرشيديّة، بأمنها وسمعتها وقيمها. فهل يعقل مثلاً أن يتحوّل مخيّم شاتيلا، الذي كان مدرسة تخرّج الفدائيين والمقاومين، وخرجت منه دلال المغربي وعلي أبو طوق، واستشهد على ترابه مئات الأبطال، إلى سوق لتجارة المخدرات.
ختاماً، على الفصائل أن تتحرّك وتنقذ المخيّمات، ولا تترك هؤلاء التجّار يغرسون خناجرهم المسمومة في قلب مخيّماتنا، بحيث يبددون القيم الثوريّة والبطوليّة التي كرّسها شهداؤنا.